1.                                                                            
  2. المستوى: سنة ثانية علم نفس عيادي                                  مادة: علم النفس المرضي
     
    الدرس الاول: نبذة تاريخية لعلم النفس المرضي: النشأة والتطور
     
    اهتم الانسان منذ القدم بالظواهر غير الطبيعية للسلوك، فحاول الانسان إعطاء تفسيرات قصد فهم هذه السلوكيات الشاذة، مما دفعه إلى إعطاء تفسيرات ما ورائية، مرتبطة بالجن والسحر وعبادة الأوثان، فقد أشارت الكتابات القديمة إلى السلوك غير الطبيعي خاصة الصينيين والمصريين والعبرانيين واليونانيين غالباً ما يعزون هذا السلوك إلى شيطان أو رب استولى على شخص ما. حيث كان يفترض أن "الحيازة" تنطوي على أرواح طيبة أو شريرة تعتمد عادة على أعراض الفرد المصاب.
     إلى حين عهد "أبقراط" في العصر اليوناني (460- 377 ق.م) حيث أنكر أبقراط أن الآلهة والشياطين تدخلوا في تطور الأمراض وأصر بدلاً من ذلك على أن الاضطرابات العقلية مثل الأمراض الأخرى لها أسباب طبيعية وعلاجات مناسبة. كان يعتقد أن الدماغ هو الجهاز المركزي للنشاط الفكري وأن الاضطرابات العقلية ترجع إلى أمراض الدماغ.درس الفيلسوف اليوناني "أفلاطون" (429–347 قبل الميلاد) الأفراد الذين يعانون من اضطرابات عقلية ونظر إلى الظواهر النفسية على أنها ردود للكائن الحي كلها، مما يعكس حالتها الداخلية وشهواتها الطبيعية.كتب الفيلسوف اليوناني الشهير"أرسطو" (384 - 322 قبل الميلاد)، الذي كان تلميذاً لأفلاطون على نطاق واسع عن الاضطرابات العقلية، من بين أكثر مساهماته في علم النفس وصفه للوعي حيث قال إنه يرى أن "توجيه التفكير" سوف يزيل الألم ويساعد على تحقيق المتعة.
    استمر في عمل أبقراط من قبل بعض الأطباء اليونانيين والرومانيين اللاحقين. على وجه الخصوص في الإسكندرية، مصر (التي أصبحت مركزًا للثقافة اليونانية بعد تأسيسها في عام 332 قبل الميلاد من قبل الإسكندر الأكبر)، تطورت الممارسات الطبية إلى مستوى أعلى. تم اعتبار البيئة المحيطة السارة ذات قيمة علاجية كبيرة للمرضى الذين يعانون من أمراض عقلية.ويعتبر جالينوس (130- 200) أحد الأطباء اليونانيين الأكثر سيطا والذي مارس نشاطه في روما. على الرغم من أنه تحدث عن التقاليد الهيبوقراطية، إلا أنه قدم عددًا من المساهمات الأصلية فيما يتعلق بتشريح الجهاز العصبي (للحيوانات)، حيث قسم أسباب الاضطرابات النفسية إلى فئات جسدية وعقلية.(Bucher, James Neal & Coll,2017 :58-60)
     
    خلال العصور الوسطى (من حوالي 500 إلى 1500 م)، انتقلت القواعد العلمية للطب اليوناني للبلدان الإسلامية في الشرق الأوسط. وتم تأسيس أول مستشفى للأمراض العقلية في بغداد في 792؛ سرعان ما تبعه آخرون في دمشق وحلب (Polvan, 1969). في هذه المستشفيات (البرمستانات) تلقى الأفراد الذين يعانون من اضطرابات عقلية علاج إنسانيا. من ابرز الشخصيات في الطب "ابن سينا" (حوالي 980-1037) كما يطلق عليه"أمير الأطباء" (Campbell, 1926)، وهو مؤلف كتاب القانون في الطب، وكانتأعماله الطبية الأكثر دراسةوعلى نطاق واسع. في كتاباته أشار ابن سينا مرارًا إلى الهستيريا والصرع وردود الفعل الهوسية والكآبة. (Browne, 1921, p. 88–89).
    خلال العصور الوسطى في أوروبا، كان البحث العلمي في السلوكيات الشاذة محدودًا، وتميزت معاملة الأفراد الذين كانوا يعانون من اضطرابات نفسية في كثير من الأحيان بطقوس أو خرافات أكثر من محاولات فهم حالة الفرد.
    خلال الجزء الأول من عصر النهضة وفي فترة النشاط الثقافي والعلمي المزدهر (حوالي 1400-1700)، تراجعت وجهات النظر للاستحواذ الشيطاني في تفسير الاضطرابات. فاعتقد الطبيب الألماني "يوهان واير" (1515-1588) وهو أول طبيب متخصص في الأمراض العقلية، أن العقل عرضة للمرض مثله مثل الجسم، وهو يعتبر الآن مؤسس الدراسة الحديثة لعلم النفس المرضي.تم إنشاء المصحات للمصابين بأمراض عقلية تدريجياً في بلدان أخرى مشابهة للتي كانت بالأندلس قبل الدخول الاسباني، بما في ذلك المكسيك (1566) وفرنسا (1641). تم إنشاء ملجأ في موسكو في عام 1764، وتم بناء برج Lunatics الشهير في فيينا في عام 1784.في الولايات المتحدة، قدم مستشفى بنسلفانيا في فيلادلفيا الذي تم الانتهاء منه بتوجيه من بنجامين فرانكلين في عام 1756 بعض الخلايا أو عنابر المرضى الذين يعانون من مرض عقلي. المستشفى العام في ويليامزبرغ فرجينيا، الذي تم إنشاؤه عام 1768 كان أول مستشفى في الولايات المتحدة مخصص حصريًا للمرضى الذين يعانون من مرض عقلي. ومع ذلك لم يكن علاج المرضى الذين يعانون من مرض عقلي في الولايات المتحدة أفضل من العلاج المقدم من المؤسسات الأوروبية.(Ronald. J- Comer, 2004 :12)
     
    مع اقتراب عام 1800، بدأ علاج الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات عقلية في التحسن مرة أخرى. أثناء الثورة الفرنسية، عُين "فيليب بينيل"(1745-1826) كبير الأطباء هناك. وقال إن المرضى يجب علاج أمراضهم بالتعاطف واللطف بدلاً من السلاسل والضرب، قام بفك قيودهم وسمح لهم بالتنقل بحرية حول أرض المستشفى، واستبدل الأبراج المحصنة المظلمة بغرف مشمسة جيدة التهوية، وقدم الدعم والمشورة وهنا ظهر المنحى الإنساني في علم النفس المرضي.في هذه الأثناء في انجلترا كان "ويليام توك" (1732-1819) يجلب إصلاحات مماثلة في شمال إنجلترا.في عام 1796 أسس "يورك ريتريت" منطقة ريفية يعيش فيها حوالي 30 مريضاً عقلياً كضيوف في منازل ريفية هادئة وعولجوا بمزيج من الراحة والكلام والصلاة والعمل اليدوي (Borthwick et al. ، 2001).انتشرت المعاملة الأخلاقية في ظل أساليب بينيل وتوك،  وانتقلت أعمالهما الى الولايات المتحدة عل يد بنيامين راش (1745-1813)، وهو طبيب بارز في مستشفى بنسلفانيا. حصر ممارسته للمرض العقلي، طور Rush مناهج إنسانية مبتكرة للعلاج (Whitaker، 2002). وبعد ذلك كانت دوروثيا ديكس (1802-1887) ناشطة في نيو إنجلاند وأصبحت بطلة للفقراء "المنسيين" الذين تم إيداعهم في السجون والمؤسسات العقلية لعقود من الزمان خلال القرن التاسع عشر.نتيجة لما شاهدته، قامت ديكس بحملة متحمسة بين عامي 1841 و1881 أثارت الناس والهيئات التشريعية لفعل شيء حيال المعاملة اللاإنسانية الممنوحة للأشخاص الذين يعانون من مرض عقلي،فمن خلال جهودها نمت حركة الصحة العقلية في أمريكا (Karnesh, withZucker, 1945, p. 18).
     
        غير أنه تراجعت المعاملات الأخلاقية في نهاية القرن التاسع عشر وذلك بسبب تضاعف المستشفيات العقلية،وتطور حالات النقص الشديد في الأموال والموظفين، وانخفضت معدلات الشفاء، وأصبح الاكتظاظ فيالمستشفيات مشكلة كبيرة.بحلول السنوات الأولى من القرن العشرين، توقفت حركة المعاملة الأخلاقية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. وأصبحت لا تقدم مستشفيات الأمراض العقلية العامة إلا رعاية صحية وعلاجات طبية غير فعالة وازداد اكتظاظها كل عام.
    بينما كانت الحركة الأخلاقية تتراجع في أواخر القرن التاسع عشر، ظهر منظورين متعارضان وبدأ في التنافس على شد انتباه الأطباء: المنظور الجسدي، النظرة القائلة بأن الأداء النفسي غير الطبيعي له أسباب جسدية، والمنظور النفسي المنشأ، الرأي القائل بأن الأسباب الرئيسية لأي أداء غير طبيعي هي نفسية. أخذت هذه المنظورات في إزدهار كامل خلال القرن العشرين. وكان من بين أشهر رواد النظرة الجسدية الباحث الألماني البارز"إميل كريبيلين"(1856-1926). في عام 1883 نشر كريبيلين كتابًا مدرسيًا مؤثرًا بأن العوامل المادية مثل التعب هي المسؤولة عن الخلل الوظيفي العقلي.
     
    شهد أواخر القرن التاسع عشر أيضًا ظهور المنظور السيكولوجي، وهو الرأي القائل بأن الأسباب الرئيسية للوظائف غير الطبيعية غالباً ما تكون نفسية.ومع ذلك، فإن المنظور النفسي لم يكتسب الكثير من الأهمية حتى أظهرت دراسات التنويم المغناطيسي إمكاناتها.تم استخدام التنويم المغناطيسي للمساعدة في علاج الاضطرابات النفسية التي تعود إلى عام 1778، عندما أنشأ طبيب نمساوي يدعى "فريدريش أنتونميسمر" (1734-1815) عيادة في باريس. كما أن الدراسات التي وضعت على اضطراب الهيستيريا قد أعطت منحى جديد في علم النفس المرضي خاصة أعمال جان شاركوت (1825–1893)و "هيبوليت ماري بيرنهايم" (1840-1919) و "أمبرواز أوغستليبولت" (1823-1904)، "جوزيفبروير" (1842-1925) و"سيغموند فرويد" (1856-1939)، هذا الأخير الذي أعطى منحى جديد لعلم النفس من جهة وعلم النفس المرضي من جهة أخرى من خلال المقاربة التحليلية للاضطرابات النفسية، ومع ذلك، فإن النهج التحليلي النفسي لم يكن له تأثير يذكر على علاجالمرضى الذين يعانون من اضطرابات شديدة في المستشفيات العقلية.
    الآن في هذه الآونة الأخيرة أصبح المرض النفسي معروفا، وأصبح كل ممارس يعرف أسباب هذا المرض وذلك بفضل تطور علم النفس المرضي بعد خمسينيات القرن الماضي بجهود مجموعة كبيرة من العلماء والباحثين في علم النفس الطب النفسي وعلم الاعصاب.
Last modified: Friday, 24 October 2025, 11:46 AM