العمل عند آدم سميث:
إ َّن الرغبة في الربح، وجشع العامل في تحقيق الثروة، سيكون عامال إلنتاج ما هو مطلوبا، ما يدفع الى تحسين فعالية المنتوج والحرص على كفاءة اإلنتاج مع تقليص التكاليف وترشيدها دون إضرار بهذه الجودة،
وبهذا فاليد الخفية استعارة ابتكرها آدم سميث تتلخص فكرتها في أ َّن الفرد أثناء اهتمامه وسعيه لتحقيق المصلحة الشخصية يحقق مصلحة مجتمع ككل، ما دام العائد العام للمجتمع هو مجموع عوائد األفراد، فال شك أ َّن ت ازيد عوائد األشخاص يحقق منطقيا زيادة العائد اإلجمالي للمجتمع، فالمستوى االقتصادي للمجتمع تحركه أيادي خفية موجودة رغم أنها غير مرئية وال يمكن رصدها ومالحظتها.
هي اليد الخفية والمحرك الحقيقي إلنتاجية الفرد، ليست يد واحدةإ َّن المصلحة الفردية إذا
فحسب، إنما مجموع أيادي األفراد في كل مكان، مع الحركية االقتصادية لهذه األيادي والتي تؤدي الى تراكم اإلنتاج الجماعي؛ تتحقق مصلحة الفرد على حدى، ثم زيادة دخل المجتمع و االقتصاد نحو النمو والتطور، فصاحب المصنع مثال يسعى لتحصيل أعلى أرباح وهو في نفس اللحظة يحقق مصلحة اآلخرين من عمال وشركات نقلهم مثال، وبالتالي فتحقيق الربح الشخصي فيه نصيب بالضرورة لآلخرين جميعا والمجتمع في عمومه، فقد قلب آدم سميث التصور القائم على االعتقاد أ َّن
السعي لتحقيق الصالح العام هو أنجع الطرق للنهوض بالمصلحة الشخصية، وأ َّن اإلثنين متطابقان بالضرورة، واعتبر أ َّن الرغبة الشخصية على أسبقيتها تشكل عامال رئيسيا لتحقق الصالح العام، لكن هذه المصلحة الذاتية بوصفها الدافع الى العمل تمثل نصف الصورة فقط، أما النصف اآلخر فيكمن في ما يمنع األفراد المتعطشين الى الربح من القسوة واالستغالل وتضخيم الثمن على المجتمع، هذا العامل المنظم هو المنافسة، حيث تتضارب األطماع وتتواجه األفراد مع مثيالتها ممن يحملون نفس الدوافع والمطامح، وبالتالي ال سبيل للتفوق إال بالنزول عند أدنى الدرجات التي يمكن من خاللها االنجذاب نحوك، لذلك فالمنافسة تهديد النسياب المصلحة الذاتية "فالشخص الذي يسمح
لمصلحته الذاتية ألن تهرب معه سوف يجد أ َّن منافسيه تسللوا لينزعوا منه حرفته، فإذا طالب بثمن لسلعة يزيد عن الحد الواجب او أبى أن يدفع لعماله األجر الذي يؤديه غيره فسوف يجد نفسه بغير
.
مشترين في الحالة الأولى وبدون أفراد يخدمونه في الحالة الثانية" )هيلبرونر، ،9122 صفحة 29(
طبعا ال يعني آدم سميث بالمصلحة الشخصية وحب الذات تلك الأطماع والأنانية التي تعني الاستعداد الكريه لتحقيق المكاسب عبر جعل الآخرين أسوأ حاال، إنما الاعتناء بالحالة المعيشية للمرء والاهتمام بالنفس على نحو مناسب ومقبول، لذلك يشدد على التعاطف كخاصية من خصائص
البشرية، والعدل بعدم إضرار اآلخرين كقواعد أساسية )باتلر، ،3112 صفحة 29(. مجمل القول كما جاء في كتاب آدم سميث إليمون باتلر( Butler Eamonn" (أ َّن االزدهار المنشود ينمو بأسرع خطى له في ظل سوق تنافسي منفتح يسوده التبادل الحر ويغيب عنه اإلجبار، وهنا تبرز الحاجة الى الدفاع والعدل وحكم القانون للمحافظة على هذا االنفتاح، إ َّن الحرية
والمصلحة الشخصية ال تقودان الى الفوضى بالضرورة، وإنما تؤديان الى النظام واالنسجام، وكأ َّن . يدا خفية ترشد خطاهما" )باتلر، ،3112 الصفحات 92-92(
.6 نقد وتقويم:
حقق آدم سميث شهرة واسعة جراء ما ابتدعه من مفاهيم ونظريات تهتم بالشأن االقتصادي، كتقسيم العمل وأساس ثروة األمم واليد الخفية، حتى أنه طيلة ما يزيد على األعوام المائة التالية كان االقتصاديون يحاولون تقويم استنتاجاته وتجديدها ويعملون جادين على تفسير ما غمض من أفكاره سعيا الى إكمال منظومته، لكنه رغم إمكانية إثبات أنه أول من فهم المضامين المتعددة والمقتضيات المتنوعة لتقسيم العمل "لم يكن وفقا لالعتبار ال ارهن، أول فيلسوف يالحظ التخصص او يرى تقسيم العمل بوصفه أصيال وفطريا كالعمل تماما" )أورورك، ،3192 صفحة 92(، فقد استمد نظريته في هذا من مالحظته الميدانية لمصنع الدبابيس ما يعني أ َّن آلية تقسيم العمل كانت مطبقة، وأ َّن مصانع عال تقسيم العمل رفعا لإلنتاجية، ثم إ َّن ابن خلدون على سبيل الذكر الِذلك الزمان كانت تمارس ف الحصر قد سبقه بأربعة قرون في هذا، ولنا في قوله ما يوحي بذلك، إذ يقول: "إال أ َّن قدرة الواحد
من البشر قاصرة على تحصيل حاجاته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته، ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثال فال يحصل له إال بعالج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل هذه األعمال الثالثة تحتاج الى مواعين وآلات ال تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري ]...[ ويستحيل أن تفي بذلك كله او بعضه قدرة الواحد فالبد من اجتماع در الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة ألكثرِق
منهم بأضعاف" )ابن خلدون، ،9122 صفحة 29(.
وسبقه أيضا في اعتبار العمل اإلنساني مصدر الثروة حيث قال: "إعلم أ َّن الكسب إنما يكون بالسعي في االقتناء والقصد في التحصيل، فالبد في الرزق من سعي وعمل ولو في تناوله في إشارة واضحة أ َّن العمل الهادف أساس الرزق ، واقتناءه" )ابن خلدون، ،9122 صفحة 299( والثروة،
حظيت فكرة تقسيم العمل بالإشادة الهائلة لما لها من فوائد، لكنها أيضا طرحت سلبيات عديدة كانت محل انتقاد، فقد حصرت قوة الشخص واهتماماته ومساحة معرفته المهنية حينما دفعت به للتشبث والاكتفاء بالتخصص الوحيد الذي يتقنه، وباتت العامل محل تهديد بالبطالة إذا ما انقرضت الحاجة الى ما ينتجه بالتزامن مع صعوبة مزاحمة من هم أقدم منه في التخصص إذا ما . أراد تغيير مهنته )جيفونس، ،3191 صفحة 21(
تنطلق نظريته اليد الخفية من الدعوة الى تقليص دور الدولة في النشاط االقتصادي، مفترضا تحقق توازن اقتصادي تلقائي، ذلك أ َّن السوق الحرة حسبه كفيلة بمعالجة المشاكل التي تواجه المجتمع، لكن سرعان ما أثبت الواقع االقتصادي حاجة للدولة وهياكلها، من خالل دورها الرقابي، وقد تجلت هذه الحاجة بوضوح خالل األزمة المالية واالقتصادية العالمية، ناهيك أ َّن الدولة ضرورية على األقل لحماية الملكية الخاصة، وحماية مناطق طبيعية معينة ...الخ. إ َّن نظرية اليد الخفية إذ تعتز بالمصلحة الشخصية، ال تأخذ بالحسبان اآلثار الجانبية التي يحدثها السعي الالهث لتحقيق الربح، فمن يأبه للتلوث مثال؟، كما أنها نظرية مثالية، تفترض وجود
منافسة شريفة والواقع أثبت استحالة ذلك، فكثيرا ما تسيطر الأطماع على الفضيلة، والاحتكار الذي نلحظه في أسواقنا خير دليل.
.7 خاتمة:
رغم ما ألقاه آدم سميث من انتقادات مشككة في اسبقيته لما تطرق إليه من نظريات، وفي جدواها فرضا االقتصاد السياسي، وخصوصا ما أنها له، إلا أن كتاباته تعتبر مرجعا أساسيا في
تعلق بالعمل كأساس للثروة، وأهمية تقسيمه كآلية لرفع الإنتاجية، وما تفترضه الحرية وتلك اليد الخفية؛ المصلحة الشخصية التي تحرك الفرد وتنظم السوق وترتب العملية االقتصادية لتصل بها الى الفاعلية القصوى، ما يعني تعاظم الإنتاج والقدرة على التوزيع الأمثل للموارد، الذي من شأنه تحقيق الرخاء والازدهار المرغوب من كل البشر.
.8 قائمة المراجع:
∙ ابن خلدون، المقدمة، دار القلم، بيروت، .9122
∙ آدم سميث، بحجم فممي أسممباب وطبيعة ثروة الأمم، ترجمة حسممني زينممه، معهممد الدراسات الاستراتيجية، ط،9 بغداد، .3112
∙ إيممون بماتلر، آدم سميث، ترجممة علمي الحمارس، م ارجعمة إيممان عبمد الغنمي نجمم، مؤسسمة هنداوي، المملكة المتحدة، .3112
∙ بممي. جممي. أورورك، مالحظممات علممى ثممروة األمممم، ترجمممة معممين اإلمممام، العبيكممان للنشممر، الرياض،
العمل عند ماركس:
من هو كارل ماركس؟
كارل ماركس Karl Marx (1883-1818) : فيلسوف ألماني، وعالم اقتصاد، أو منظِّر اقتصادي ألماني، بدأ مشواره الفلسفي أو كارل ماركس الشاب بانتقاد وقلب تصور هيجل المثالي، ويعد عمله: “المخطوطات 1844” بمثابة دليل على انتمائه إلى “اليسار الهيجلي”، خاصَّة أنَّه كان متأثِّراً ووفياً لأفكار وتصورات فويرباخ والذي يعد أحد أبرز رواد “الشباب اليساريين الهيجليين”، لكن كارل ماركس سرعان ما سينقلب ويقطع بالمرة مع “اليساريين الهيجليين الشباب”، بل وسيتخلى أو يقطع مع معظم أفكار فويرباخ، خاصة بعد لقائه مع صديقه الذي تحول إلى توأمه الروحي، فريدريك إنجلز، والذي يحتاج بدوره إلى تعريف خاص به، ووقفة عند مجمل أفكاره، لأنه لا يمكن فهم ماركس بدون إنجلز، كما لا يمكن فهم هذا الأخير، بدون أفكار كارل ماركس، إنهما توأمان فلسفيان وفكريان، أي أنّهما فكَّرا معا، بنفس الكيفية، ووفق نفس المنهج والغاية، ولهذا سيؤلف معه عملاً أو أعمالاً مشتركة، لعل أبرزها: “الأيديولوجية الألمانية” 1846، تمحورت فلسفة كارل ماركس في الحقيقة، حول الديالكتيك (الجدل) والذي استعاره من الفيلسوف الألماني “هيجل”، لكن “كارل ماركس” استعمله كمنهج أو كطريقة عمل من أجل فهم الواقع الحقيقي للأفراد داخل المجتمع، والوعي، والمعرفة، والتاريخ، والاقتصاد، والدين، … إلى آخره،
مفهوم العمل عند كارل ماركس:
يمكن تحديد العمل من الناحية الفلسفية بكونه: “سيرورة أو عملية علائقية بينذاتية بين الإنسان والطبيعة” من أجل إنتاج أثر نفعي، ويعتبر الانسان الكائن الوحيد الذي يعمل حسب كانط، عكس الكائنات الأخرى التي لا تعمل، لكن لماركس تعريف خاص به للعمل، يقول فيه: “إن العمل كما يقول علماء الاقتصاد السياسي هو مصدر كل ثروة. (…)، إنه الشرط الأساسي الأول لكل حياة إنسانية، وهو كذلك إلى درجة أنه يتعين علينا أن نقول بمعنى ما: إن العمل قد خلق الإنسان بالذات.”، ولاحظوا معي التحول المفهومي والدلالي للشغل بين كل من كانط وكارل ماركس، إن كان كانط قد اعتبر أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعمل، فإن ماركس اعتبر أن العمل شرط ضروري للحياة الواقعية للأفراد داخل المجتمع، والعمل سيرورة متفاعلة دائمة مع الطبيعة، وذلك من خلال المسار التطوري للتاريخ الإنساني، لهذا عبر ماركس قائلاً: “إن تاريخ المجتمعات ليس هو تاريخ ما تُنْتِجُهُ، وإنما هو تاريخ كيفية إنتاجها له.”، لكن لا ننكر أن كارل ماركس من داخل متنه الفلسفي، يعترف بالأطروحة الديكارتية الشهيرة، تلك المتعلقة بترويض الطبيعة، وحملها على خدمة أغراض الإنسان، وتغيير الطبيعة من أجل السيطرة عليها، وإخضاعها لقضاء أغراضه الشخصية، لكن لا غرابة في أن نجد هذا التصور لدى ماركس الشاب في مسوداته لسنة 1844م، لأن تطويع الطبيعة عن طريق العمل، لأن هذا الأخير هو جهد جهيدٌ منظم يمارسه الإنسان بكل عقلانية. كما أن أعمال صديقه فريدريك إنجلز، نجده يدافع عن نفس الفكرة الديكارتية-الماركسية، الداعية إلى علاقة الإنسان بالطبيعة بكونها علاقة سيادة. وهذه حقيقة تاريخية محضة لا غبار عليها، ويعترف ماركس بالعمل المنتج من قبل الإنسان كحقيقة تاريخية للعالم أيضاً. لكن ما ينتقده أو ما يعيبه عليه، هو بيع العامل لقوة عمله للغير مقابل أجر زهيد، إنه بمثابة بيع لفاعلية الإنسان ونشاطه الحيوي الرغيد.
“إن نقطة انطلاقنا هي العمل في صورة خاصة بالإنسان لا غير.”
“فالنتيجة التي ينتهي إليها العمل توجد، من قبل بصيغة نظرية، في مخيلة العامل.”
“إن [العامل] يحقق بذلك، في نفس الوقت، هدفه الذي يعيه، والذي يُحَدَّدُ -كما لو كان قانوناً- طريقة تأثيره على العامل؛ والذي يجب أن يُخْضِعَ له إرادته. (…)، لأن العمل يقتضي طيلة المدة التي يستغرقها (…) انتباها متواصلا لا يمكن أن ينتج إلا عن توتر مستمر للإرادة.” [1]
هذا التوتر المتصل للإرادة هو ما يفقد العامل فعاليته الخلاقة ونشاطه الحيوي.
“إن مملكة الحرية لا تبدأ في الواقع إلا حيثما ينتهي العمل الذي تفرضه الحاجة والضرورة الخارجية.”
“توجد [مملكة الحرية] خارج دائرة الإنتاج المادي ذاته.”
العامل يستسلم للعمل الذي ينتجه، بشكل أعمى، يجعله هذا الاستسلام خاضعا للعمل، ويفقده حريته، ويوسع من استيلابه وبالتالي اغترابه.
هناك علاقة جدلية في المتن الماركسي بين العمل أو العامل ومملكة الحرية الحقيقية التي لا تنفصل البتة عن مملكة الضرورة.
فالحرية بالنسبة لكارل ماركس تبتدأ خارج سيرورة “دائرة الإنتاج”.
لهذا اعتبر صديق ماركس فريدريك إنجلز، العمل بجميع أنواعه، شكلاً أو مظهراً من مظاهر الاستيلاب والتعذيب والاغتراب، إن العمل بالنسبة للعامل عذاب شديد أليم، أشد هولاً، وأكثر إذلالاً لكرامة العامل الإنسانية، لهذا كان متأكداً، أقصد فريدريك إنجلز، من الكراهية والحقد الدفين الذي يتشكل لدى العامل، أثناء سيرورة العمل، لأنه وبكل بساطة يشعر بالحقد والكراهية المتأصلة فيه، والتي سببها الشعور بالقهر، العامل مقهور، متهتك، ميؤوس منه، يشعر دائما بالفقر والكدح، لهذا يشتغل العامل من أجل المال وفقط، إنه يعمل لأنه مكره لا مخير، مجبر على ذلك، كما أن العمل طويل الأمد، قد يعمل المرء نصف حياته أو أكثر، ومن مميزات العمل الأخرى الرتابة والتكرار والنمطية، والنسقية، إن العمل عذاب حقيقي للعامل، يفقده أهم شيء هي كرامته الإنسانية.
لا حياة توجد في العمل، فهو ليس بحيوي البتة، إنه ثابت لا يتحرك، ساكن، سيرورة ميكانيكية آلية مملة، ويبقى العمل كما هو بالنسبة للعامل، إنه ثابت وساكن ومتمركز حول ذاته، يبقى كما هو طيلة سنوات العمل العجاف.
ينتقد ماركس وإنجلز العمل مدة اثني أو إحدى أو عشرة ساعات في اليوم، حتى ثمان سعات في اليوم المعمول بها حالياً يرفضونها، لأنها وبكل بساطة غاية في الرتابة والملل، وتقتل روح الحياة في العامل. الذي يموت يوما بعد يوم، ذلك أن العمل شيء تافه، وأخطر من ذلك، أنه يبعدنا عن حالة التفكير والتأمل العقلي، فالعامل لا يفكر، إنه يقتل نشاطه الفكري، يوما بعض يوم، ويفقد قدرته على الإنتباه والتيقظ والتساؤل والنقد، فيظل العامل أسير وسجين البورجوازي، يعمل ويأكل وينام، هكذا هي حياة العامل مستلبة ومغتربة، فيتحول حينها إلى حيوان!!
“ليس للعامل غير هذين الأمرين، يختار أحدهما: إما أن يخضع لمصيره، ويصبح، عاملا طَيِّعاً، ويخدم مصالح البورجوازية “بأمانة” (…) وإما أن يقاوم ويناضل ما استطاع من النضال في سبيل كرامته الإنسانية.” [2].
“إن الاستيلاب لا يظهر في نتيجة العمل فقط بل كذلك في سيرورة الإنتاج نفسه وضمن الممارسة الإنتاجية نفسها.” [3].
وبهذا فالعامل بالنسبة لماركس دائماً ما يكون غريبا أو يعيش حالة اغتراب عن ما ينتجه من عمل، إن العامل ليس فاعلاً بل منفعل سلبي في عمله، فيفقد معها العامل وجوده وكينونته الحقيقة، ويظل بالضرورة خارج العمل المنتج لا داخله، كما أن العمل لا يشكل حقيقة وماهية العامل، أي هويته الأساسية والجوهرية، بل العمل يصبح بمثابة نفي وفناء وموت للعامل، فلا يشعر البتة بالراحة والسعادة والاطمئنان بل العكس الظمأ والتعاسة والشقاء، ويفقد معها العامل نشاطه الحر والخلاق، ويسجن ذاتيا وجسديا وفكريا داخل العمل، فيشعر بالقهر والكدح والفقر، ويقضي على ملكاته الفكرية والذهنية، إن العامل بالنسبة إلى ماركس يعيش حالة “اغتراب ذاتي دائم” في العمل.
تموت إرادة العامل شيئاً فشيئاً، يفرض عليه العمل، يشقى حتى الموت داخله، العمل ضد كل رغبة وإرادة وعزيمة، إنه مجرد إشباع لرغبة مثقوبة، أو لرغبة داخل برميل مثقوب، إن العمل نقص دائم، يوجد خارج ذات العامل، كما أن العمل متعلق بالرغبة والحاجة والضرورات والنزوات والشهوات والنزعات المادية، والعمل سرطان خبيث يصيب ذات العامل، إنه مرض عُصَابِيٌّ بلغة فرويد يصيب وعي الأفراد ويتأصل في لا وعيهم ويقهر ذاتهم قهرا.
الإنسان العامل مقيد لا فرق بينه وبين الحيوانات، يأكل ويشرب وينام، ويوهم نفسه أن له غايات يعمل على تحقيقها.
يقول ماركس: “في العمل الذي يبدو فيه الإنسان غريبا عن ذاته يضحي بذاته ويقهرها في نفس الآن.”
تشكل “مخطوطات” ماركس مخطوطات فلسفية بامتياز خلفها إلينا أثناء مرحلة شبابه، من خلالها يتعرف المختصون في ماركس، أطروحات ماركس الشاب، رغم كونها لم ترى النور حتى سنة 1832م، ومن خلال هذه المخطوطات، نستشف طروحة ماركس حول طبيعة العمل كنشاط إنتاجي، هناك سجال حول كونه إبداعي أم لا، لكنه مقصور على الإنسان، بالضرورة، ونحسم كونه ليس إبداعيا، ولنا تَدِلَّةٌ في ذلك، فيما يأتي، لكن هذا العمل يتحول بطبيعته بين الذاتية والخارجية، لكن ماركس يعتبر العمل خارجي على العامل.
“إن موضوع العمل هو إذن تحقيق حياة الإنسان النوعية؛ فالإنسان لا يعيد فحسب إنشاء ذاته إنشاءً ذهنيا داخل وعيه، بل كذلك عمليا وفي الواقع، يتأمل ذاته في عالم هو من إنشائه.”[4].
هكذا يصبح العمل نشاطا إنسانياً محضاً، فلا يستقيم الحديث عن حيوانات عاملة، ولا يشترك العمل بين الإنسان والحيوان، لأن الحيوانات لا تشتغل لأنها وبكل بساطة لا تفكر ولا تتخيل عملها أو تخطط له، فهي تعمل وفقا للغريزة، لهذا نقول أن العمل خاصية ماهوية مرتبطة بالإنسان، يمكننا القول أن عمل الحيوانات مجرد نشاط عضوي غريزي، عكس عمل الإنسان لأنه فاعلية إنتاجية خلاقة وواعية ومبدعة، وكي لا ننسى مسألة في غاية الأهمية، هي أن ماركس فيلسوف واقعي بالدرجة الأولى فهو ضد مثالية هيجل وأفلاطون، ومعنى واقعي أنه ينطلق من الواقع الحقيقي الفعلي الملموس، إنه ينطلق من واقع حياة تطبيقية وعملية، إنه واقع ممارسات، عكس كل مجرد عقلي ومثالي وممكن أو وهمي، لهذا انتقد بشدة كل من أفلاطون وكانط وهيجل الغارقان في المثالية الترنسندنتالية.
أما فيما يتعلق بطروحة ماركس في “التقسيم الاجتماعي للعمل” فلا ننسى أنه ناقش آدم سميث الذي ناقشه كل من دوركهايم وتايلور، لكن كارل ماركس ينطلق من قوى الإنتاج المادية: ويقصد بها الآلات والمعدات الميكانيكية الصرفة، ثم قوى الإنتاج البشري التي يقصد بها العمل بوصفه نشاط إنتاجي، لكن التقسيم الآلي للعمل بالنسبة لماركس مرتبط بالضرورة بالتقسيم الاجتماعي للعمل بين البورجوازي المالك لوسائل الإنتاج والبروليتاري المالك لقوى العمل، لكن الأهداف والغايات دائماً هي استخلاص أو ربح أكبر قدر من فائض القيمة من عرق العمال وقوى عملهم، هذا ما يؤدي بالضرورة إلى إعادة إنتاج النظام الرأسمالي القائم، الذي يؤدي إلى تطور النمو الاقتصادي من خلال استخلاص أكبر قدر من فائض القيمة.
عودة أبدية إلى المخطوط الأول من “مخطوطات 1844″، مخطوطات كارل ماركس الشاب، ينصح بالعودة إليها، وقراءتها قراءة فاحصة تمحيصية، من أجل التعرف أكثر على فكر كارل ماركس الشاب، والتي حررها في سياق إقامته ب “باريس” التي كانت عاصمة للأنوار آنذاك، لكن ماركس لم تغره جمالية وسحر باريس، وحاول تكوين موقف نقدي عميق جداً في هذه المرحلة، التي اعتبرها الباحثون في فكر ماركس، لحظة الفيلسوف الناقد والهادم والكاشف لقناع النظام الرأسمالي التنكري، لأن انصراف ماركس إلى الاقتصاد سيأتي لاحقا، أما في هذه المرحلة، أرخى سهام نقده اللادغ على النظام الرأسمالي المتوحش والكشف عن عيوبه، عيبه يكمن في تفكيره في الربح والثراء وحصد الأموال، ولا يهتم هذا النظام المتوحش بالطبقة العمالية البتة.
لهذا يشكل العمل قطيعة تامة ومطلقة عن العامل لكونه خارجياً غريباً عنه لا داخلياً ذاتياً.
يحول العمل الإنسان من إنسان ذي كرامة إنسانية مطلقة إلى إنسان ذي قيمة دنيئة منحطة، فيصبح بعدها حيوان يعيش من أجل تلبية وإشباع غرائزه التي لا تشبع.
ووجب الاحتراس والتأفف والتحوط من مفهوم “الاستلاب” لدى ماركس الذي يشير إلى “اغتراب المرء عن ذاته الحقيقية والفعلية، إنه ترك مسافة فارغة بين الذات والعمل، فيضيع المرء في واقع معزول عنه، وغريب عنه، وكأنك في عالم مجهول، إن غربة العامل أثناء العمل غربة وجودية، إنه حالة شعور بالقطيعة الذاتية والانفصال عن فاعلية العامل الخلاقة ونشاطه الحيوي، إنه سلب للعمل من بين يدي العامل”، ولهذا هناك فرق دلالي بين استلاب واغتراب ماركس وبين استلاب واغتراب فويرباخ كي لا يخلط القارئ بينها، لأن استلاب فويرباخ ديني، بينما استلاب ماركس اقتصادي-ذاتي وفي مجال العمل.
لهذا وجب التنويه والتنبيه على سياق ودلالة استعمال مفهومي “الاستلاب” و “الاغتراب” لدى كل من فويرباخ وماركس، كما أن استلاب العمل الذي يقصده ماركس هو ضد “العمل الاختياري” الذي هو عمل طوعي بالدرجة الأولى بمعنى يحققه العامل باختياره وإرادته، وهو العمل الذي نعتقد أن كارل ماركس يدافع عنه، وينبذ العمل الإجباري والقسري الاكراهي والالزامي الذي يؤديه العامل رغما عن أنفه، لكونه عمل مضغوط ومكروه، وتتحكم فيه قوى خارجية عن ذات العامل.
نقصد بالقوى الخارجية هنا، رب العمل المالك لوسائل الإنتاج، ضروريات الإنتاج، الرغبات والنزوات الخارجية.
وتجدر الإشارة هنا أن رب العمل الحر المالك لوسائل الإنتاج دائما ما يكون متمركزا أو هو مركز سيرورة الإنتاج، يملك رأس مالاً معين، يعمل على تكديس رأس المال، من خلال استخلاص القيمة المضافة من قوة العامل، كما أنه يمتلك ذلك المصنع الذي يعمل فيه العامل، إن رب العمل تكمن قوته في ما يملك لديه، عكس العامل الذي يزداد فقرا وكدحا وقهرا، يشكل العمل بالنسبة إليه “حالة استلاب واغتراب”، يعيش ويعمل من أجل قوام أو مقومات الحياة وضمان العيش الكريم، عبر بيع قوى عمله، التي يستغلها رب العمل، ويشتريها من عنده، في مقابل مبلغ زهيد، كما أن رب العمل له حرية اختيار العمل بشكل إرادي عكس العامل الذي يعمل بشكل إجباري إلزامي قهري قسري.
والأطروحة المركزية التي يرافع عنها ماركس بخصوص العمل، أن هذا الأخير، سيرورة تحويلية للطبيعة، كما أنه سيرورة تعمل على تحويل طبيعة الإنسان، هذا التحويل قد يكون نحو الأفضل ويكون لصالح رب العمل، ونحو الأسوء بالنسبة للعامل.
ورغم كون العمل يمنح الوجود البشري معنًى وفائدةً، إلا أن تغيير الانسان وتدخله في الطبيعة بواسطة العمل، قد يغير من خلال كل ذلك، ذاته كما هو الشأن لرب العمل، أو يعيش حالة “استيلاب واغتراب” عن العمل، كما الأمر عند العامل.
لهذا يشكل استيلاب العامل في عمله، تحطيم في نفس الوقت لفاعليته وطبيعته الخلاقة، وتقويض طاقته العقلية الحرة.
إن العمل وككل شغل خارجي عن ذات العامل، يشكل هالة من الغربة والعزلة والاستلاب لذات العامل، لأنه وبكل بساطة، يفقده أهم سمات الإنسانية، أقصد كلاً من الكرامة والإرادة الإنسانيتين.
إن العمل الخارجي عن ذات العامل كبح للرغبات وفقدان الاستقلالية، لهذا بالنسبة لكل من ماركس وإنجلز يجب نقد كل الخطابات التي تمجده وتقدسه، إنها خطابات تبيع الأوهام للعمال.
“إذا كان المال هو الرابطة التي تربطني بالحياة الإنسانية؛ وتربطني بالمجتمع، بل أيضاً تربطني بالطبيعة وبالإنسان، (…)، ألا يمكن القول: إن المال هو القوة الكيميائية للمجتمع؟”[5].
يشكل المال، بالنسبة لماركس، رابطة من روابط المجتمع القوية، بل “هو القوة الكيميائية” التي تخترق جسد المجتمع في كليته.
يعتمد كارل ماركس تحليلا اقتصاديا واجتماعيا خطيراً جداً لكيمياء المجتمع، أقصد المال.
“جميع الحيوانات لا تعمل” هذه هي المسلمة التي ينطلق منها كارل ماركس، حتى النمل أثناء تشييد بيته لا يعمل، والنحل أثناء بنائه لخليته لا يعمل، … إلى آخره. والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعمل لأن عمله ناتج عن سيرورة تفكير معقدة، وتخطيط أولي يسبق الإنجاز الفعلي للعمل، أما عن العمليات التي يقوم بها الحيوانات رغم براعتها ودقتها وجودتها، ليست سوى عمليات غريزية طبيعية جبلت فيه بالفطرة، أي بالغريزة، لكن هذا العمل قد يتحول إلى عذاب حقيقي عند الإفراط فيه، وبفضل العمل المفرط يتحول العامل إلى كائن جامد قامِتٍ جاثم في مكانه، وإلى مجرد حيوان يقتات ليرضي رغباته، خارج أوقات العمل، وأثناء هذه السيرورة يتشيؤ الإنسان – العامل، ويفقد شيئا فشيئاً كرامته الإنسانية، هذا التشيؤ ناتج عن حالة “الاستلاب والاغتراب” الذي يشعر به العامل أثناء عمله دائماً، كل هذا في إطار كانت علاقته بالعمل علاقة مصلحة، أي علاقة مال، أو علاقة أجر يناله بعدما يتمم عمله على أتم وأكمل وجهه، ومن هذه النقطة انطلق كل من ماركس وإنجلز واعتبرا العمل مجرد عذاب وهول حقيقي يعيشه العامل. ويكون العامل مستلبا عندما تكون غاياته وأهدافه ومبادئه ومصالحه مخالفة البتة مع العمل الذي ينتجه.
وفي الختام، نقول إن الإنسان يعمل، لأن العمل مسألة ضرورية جداً لسد حاجياته الأساسية، بل والقيام بالدور الإجتماعي المناط له على أحسن وجه، وقد لاحظنا كل من ماركس وإنجلز ينتقدان العمل الغريب عن ذات العامل، أي العمل القسري – الإلزامي، عكس العمل الحر المختار الذي هو عمل إرادي مقبول، ومن خلاله يثبت الإنسان وجوده، ويمنحه معنى وفائدة، ويعود بالنفع على المجتمع والدولة، ويساهم في ضمان اللُّحْمَةِ الاجتماعية والأساس الأخلاقي، كما يمكن القول، بغض النظر عن أن العمل استعباد للعامل وقهره، أنه أي العمل تحرير وتحقيق للذات، وتلبية للرغبات وطموح إلى دائم إلى الاستقلال.
_____
المراجع والمصادر المعتمدة:
[1] – Voir : Karl Marx, « Capital », Book One, Part One, Social Publications 1950, pp. 180 et suiv. (Adapté).
[2]- أنظر: فريدريك إنجلز، “نصوص مختارة”، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1972، ص-ص: 258-259.
[3] – Karl Marx, « Manuscrits » 1848, pp. 514-515, adapté de Kostas Papaioannou, « Marx et les marxistes », Flammarion 1972, p. 40
[4] – Karl Marx, Manuscrit de 1844, la pleiad, tom. 2, Gallimard 1968, pp. 64.
[5] Voir : Karl Marx, Manuscrits 1844, Presses universitaires françaises 1972, p. 100.