النظرية النقدية (فرانكفورت):
بدأ المشروع العلمي للمدرسة مع نشأة معهد البحوث الاجتماعية في فرنكفورت، افتتح رسميا في 1924، تكون كحلقة فكرية عبر المناقشات الجماعية لمؤسسيه ممن شكلوا احد فصائل الراديكالية وعاشوا صعود اليسار الألماني وانتكاسته، شاركوا في هم رفض المشروع الثقافي الغربي أو ما يعرف الآن بما بعد الحداثة، ورغبوا بنقد جذري لعصرهم، تأسس المعهد بإدارة البروفسور النمساوي الماركسي "غرونبرغ" بعد الحرب العالمية الأولى، وهو تابع لجامعة فرانكفورت، لكن كان يتلقى تمويل مستقل، له مكانه خاصة لأنه لم يكن قسما من جامعة فرانكفورت ولا منظمة سياسية، ترأسه غرونبرغ ثم هوركايمر، هاجر إلى جنيف ولندن وباريس بعد الحكم النازي ثم إلى الولايات المتحدة، يعود تراث النظرية إلى ما يزيد عن 75 عام، هذا التراث لا يزال يترك بصمته الواضحة على المشهد الفكري في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية كاشفا القدرة على التجديد والعودة إلى الحياة الثقافية والفكرية.
أساس النظرية النقدية أفكار طورها معهد البحث الاجتماعي، وتشكلت في ظل تأثير مديرها آنذاك ماكس هوركايمر، وهي اتجاه فكري مألوف للباحثين في الفلسفة والنقد الأدبي وعلم اجتماع، وتعتبر أيضا نظرية سياسية في جوهرها، واهم ممثليها المؤسسين: ماركس هوركايمر، تيودور ادورنو، فريديريك بولوك، هربرت ماركيوز فالتر بنيامين/ الجيل الثاني: الفريد شميث، يورجين هابرماس، البرت فيلمر.[1]
تعطي هذه المدرسة الاولوية في تحليلهم للمحيط الثقافي والاجتماعي الذي تتم فيه عملية الاتصال وقد تأثرت بالفكر الماركسي وهم يعتمدون على البحث النظري المجرد الخالي من المعطيات الموضوعية وقد تفرعت إلى اتجاهات مختلفة منها أصحاب اتجاه الاقتصاد السياسي والاتجاه الشمولي والاتجاه الثقافي النقدي والاتجاه الامبريالي الثقافي.[2]
أ. الاتجاه الثقافي النقدي:
تندرج هذه النظرية ضمن نموذج التأثير، فهي ترى أن وسائل الإعلام عبارة عن أدوات إيديولوجية في يد السلطات الحاكمة تنتج صناعات ثقافية تؤثر بها مباشرة على الجماهير، وقد استعمل مفهوم الصناعة الثقافية لأول مرة، من قبل عالمين من أعلام مدرسة فرانكفورت سنة 1947 هما تيودور ادورنو وماكس هوركايمر وهو يشير إلى:
الأنشطة الصناعية التي تنتج وتسوق الخطابات، الأصوات، الصور، الفنون وكل القدرات الأخرى والعادات التي يكسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع، التي تملك بدرجات مختلفة خصائص الثقافة آو هي:" مصطلح يضم مجموع الأنشطة والتقنيات التي تعيد إنتاج الأعمال الثقافية طبقا لمعايير إخضاع للمنطق والنمطية"[3]
ويرى هذا الاتجاه أن هناك ثلاث خاصيات في الدراسات النقدية الثقافية هي :
-الخاصية الأولى: وسائل الإعلام صناعة خاصة في الدول الرأسمالية فهي صناعة كباقي المنتجات المادية التي يقدمها السوق ويخضعها لقوانينه وعليه فإنها لا تعكس ذاتية الفنان إلى مصالح الطبقة الرأسمالية التي عوض أن تخفف من حدة التناقضات الاجتماعية ،فإنها تزيدها حدة ووسائل الإعلام هي وسائل إنتاج وعليها ،من هذا المنطلق أن تنتج الأشياء بشكل تسلسلي هذا طبع لا يسمح بتساوي الشروط الثقافية اللازمة بل بالعكس فهي نوع من اختراق الديمقراطية، وهذا ما أطلق عليه ماركيوز مجتمع أحادي البعد أي المجتمع الذي ظهر بفضل توحيد شروط الصناعة الثقافية ولا يرى ماركيوز في تقنيات الاتصال إلا وسيلة للتلاعب .
أما الخاصية الثانية: والمتمثلة في نموذج البث، فتعني أن وسائل الإعلام تعمل على فرض شكل واحد من التفاعل نتيجة إلى أحادية مصدر الرسائل المنبثة على الأقل من حيث البعد الذي يتحكم في هذه المصادر أي الربح مما يزيد من حدة الانعزالية الشيء الذي يشجع على تنامي الاتصال العمومي بين افرد المعزول والإدارة المركزية.
-أما الخاصية الثالثة: فتتمثل في غياب التبادل ذلك أن وسائل الإعلام تقضي على كل إمكانية تبادل الاتصال إذ أن محتوياتها تتجه اتجاها واحدا ولا يمكن لمستقبل الرسالة أن يناقش مضمونها مع المرسل.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي، احتلت الصناعة الثقافية المرتبة المركزية في أوروبا واضطلع الباحثون الفرنسيون بالدور الأول فيها، وكانت مقاربتهم لها بصفة عامة نقدية بشكل أساسي ومخالفة لتيار المدرسة النقدية الألمانية.[4]
يتساءل فريق البحث بقيادة الأكاديمي برنار مياج في كتابه المعنون "الرأسمالية والصناعات الثقافية" سنة 1978 عن طبيعة السلعة الثقافية وحاول الإجابة عن السؤال التالي: ما هي المشاكل الخاصة التي تواجهها الرأسمالية في إنتاج القيم انطلاقا من الفن والثقافة؟
أن الصناعة الثقافية تشكل من القطاعات التي تملك قوانينها الخاصة بمعيارية الإنتاج ومردودية الإنتاج الثقافي والقيمة المضافة للاستثمارات الثقافية تترجم في آليات تنظيم العمل وفي خصوصية المنتجات ذاتها وفي محتوياتها وفي الأنماط المؤسساتية لمختلف الصناعات الثقافية (خدمة عمومية، علاقات بين القطاع العام والقطاع الخاص وغيرها) وفي درجة التمركز الأفقي والعمودي لمؤسسات الإنتاج وأيضا في الطريقة التي يستملك بها المستهلكون أو المستخدمون المنتجات الثقافية والخدمات.[5]
ب. الاتجاه الاقتصاد السياسي:[6]
تفترض هذه النظرية بأن الإيديولوجيات الخاصة بوسائل الإعلام ترتبط بشكل مباشر بالممول الاقتصادي لمؤسسة الإعلام أي الجريدة ، التلفزيون أو الراديو- لأن الاعتبارات الاقتصادية هي التي تفسر وتحدد السياسة الإعلانية العامة لوسيلة الاتصال، فالمضامين التي يتم تمريرها من خلال وسائل الإعلام تتأثر بشكل مباشر بالمصالح الاقتصادية الخاصة بأصحاب ومالكي هذه الوسائل إذ يسعى هؤلاء الأشخاص إلى تحقيق الأرباح المادية، ولهذا فإن كثيراً من القرارات التي تتخذ- ماذا نبث، توقيت البث، ومضامين البرامج تحددها المعايير المادية، والسؤال الذي يبقى مفتوحاً هو: ما علاقة الاقتصاد بالسياسة ؟ وما علاقة وسائل الإعلام بهذا كله؟
- ويجيب أصحاب النظرية السياسية- الاقتصادية على هذا السؤال، بأن مالكي المحطات وأصحاب رؤوس الأموال يسعون للحفاظ على ثبات واستقرار النظام السياسي إذ أن تَغَيُّر النظام السياسي وعدم ثباته سيؤثر عليهم وعلى مصالحهم الاقتصادية سلباً .
[1] العربي بوعمامة: الإعلام الثقافي والصناعات الإبداعية، مرجع سبق ذكره، ص ص 110/111.
[2] نضال الفلاح الضلاعين، مصطفى يوسف كافي: نظريات الاتصال والإعلام الجماهيري، مرجع سابق، ص 241.
[3] أرمان وميشان ماتلار: تاريخ نظريات الاتصال، تر: نصر الدين لعياضي والصادق رابح، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2005، ص 89.
[4] العربي يوعمامة: الإعلام الثقافي والصناعات الإبداعية: مرجع سابق ،ص 237.
[5] العربي يوعمامة، مرجع سابق ،ص 238.
[6] عماد مكاوي حسن، ليلى حسين السيد: الاتصال ونظرياته المعاصرة، مرجع سبق ذكره، ص1 12